بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 4 نوفمبر 2012

الشاعر والروائي العالمي طارق الطيب



طارق الطيب من الأدباء السودانيين المهاجرين الذين نجحوا في المشاركة الإيجابية في المشهد الثقافي الغربي بفضل تعدد مواهبه أدباً

وتشكيلا. له تسعة أعمال منشورة بالعربية من شعر ورواية ومسرح كما ان له كتبا ونصوصا مترجمة الى عشر لغات أوروربية.

حصل على عدة منح أدبية من النمسا، منها منحة «إلياس كانيتّي الكبرى» ومنحة «ليترار ميكانا الأدبية» في عام 2005 و«المنحة

التشجيعية الكبرى للدولة» لعام 2001. شارك بدعوة من النمسا في معرض فرانكفورت عام 1995 كممثل عن الكتاب المقيمين في

النمسا من أصل غير أوروبي، ونشر في دوريات وأنطولوجيات في أكثر من عشرين عاصمة عربية وأوروبية. وروايته الأولى «مدن

بلا نخيل» المترجمة إلى الفرنسية، دخلت في مقرر مدارس الليسيه الفرنسية بمدينة لاروشيل للمرحلة الثانوية هذا العام. يقيم في فيينا

منذ 25 عاما ويعمل حاليا محاضرا في جامعة جراتس بالنمسا. «الشرق الأوسط» تحاور طارق الطيب بعد حصوله على الجائزة

العالمية الكبرى للشعر في رومانيا لعام 2007 مطلع الشهر الحالي.

> حدثنا عن جائزة الشعر العالمية الكبرى ببوخارست ومشاركتك بها؟

ـ بدأت فكرة أكاديمية «شرق ـ غرب» قبل ثلاثين عاما، بالتحديد عام 1977 من قِبَل الشاعر الروماني وراعي الفكرة دوميترو إيون

والشاعرة كارولينا إليكا. ويقام هذا المهرجان المعروف باسم «كورتا دي آرجيش» سنويا. توقف نشاطه لمدة 21 عاما ليعود مجدَّدًا

بدءًا من عام 1997 واستمرَّ بلا انقطاع حتى الآن.

حين دعيت إلى المهرجان في رومانيا أوشكتُ أن أعتذر؛ فقد كنتُ عائدا للتو من سويسرا من مهرجان المتنبي، وفي غضون ستة شهور

كنت قد سافرت في بلدان الدنيا أكثر مما ظننت، هذا غير اللقاءات الأخرى داخل النمسا. وكان من حسن حظي أنني وافقت على حضور

المهرجان الروماني، لأشارك ضمن أكثر من أربعين شاعرة وشاعرا، كلهم على مستوى رفيع، كل واحد منهم كان جديرا بالفوز

بالجائزة الكبرى. تقدم أكاديمية «شرق ـ غرب» أربع جوائز أخرى فرعية بجانب الجائزة العالمية الكبرى للشعر: جائزة البلقان للشعر،

جائزة شرق ـ غرب للفنون، الجائزة الوطنية للأدب، والجائزة الأوروبية للشعر. وقد فاز من قبل بهذه الجائزة العالمية الكبرى للشعر

العديد من الأسماء المعروفة مثل مخايل رينجيوف من مقدونيا، مانويل دياز مارتينيز من كوبا، جون إف دين من آيرلندا، ساتوكو

تامورا من اليابان، أنطونيو بروبيتا من إسبانيا وغيرهم. فوجئتُ بالحصول على الجائزة في الليلة الأخيرة ولم أكن أبدا أتوقعها، وكنت

قبلها بدقائق، أكثر من سعيد بأن أحصل على تكريم خاصٍّ عن قصائدي المقروءة ـ مع شاعر من البرتغال وشاعرة من النمسا ـ إضافة

إلى عضوية تكريمية لي بأكاديمية «شرق ـ غرب».

ماذا تناولت قصيدتك التي نالت الجائزة الأولى؟

ـ الجائزة العالمية الكبرى في الشعر لا تُعطى عن قصيدة واحدة. هم تنبَّهوا لي بعد قصيدتي الأولى التي ألقيتها في اتحاد الأدباء في

بوخارست في اللقاء الأول، وقال لي رئيس الأكاديمية ـ في اليوم الأخير ـ إنهم كانوا قد أضافوا اسمي لقائمة المرشحين بعد هذه القراءة

الأولى. تمَّ منحي هذه الجائزة بناء على القراءات التالية لي ومراجعة اللجنة لأعمالي ونشاطاتي ومراجعة سجل الأعمال والقصائد

المنشورة لي في الأنطولوجيا الرومانية لعام 2007 وفي صفحتي الشخصية، فضلا عن ذلك، ذكر لي الشاعر دوميترو إيون أنه كان

يعرفني من لقاء سابق في مهرجان ستروجا العالمي في مقدونيا في عام 2003، وأنه يتابع كتاباتي وكان قد قرأ لي ديوانا بالمقدونية،

نُشِر عام 2005 ضمن الكتب السبع، السنوية، التي ينشرون فيها كتابا واحدا من كل قارة.

>هل تشكل تلك الجوائز تحديا للكتابة أم تراها مرفأ وصلت إليه بعد عناء؟ وهل تساعد تلك الجوائز في تقريبك من القراء الغربيين؟

ـ الجوائز ليست ترفا في جوهرها وإنما مسؤولية إضافية على عاتق الكاتب. الغبطة هنا مؤقتة؛ لأن الأعمال التالية سيُنظر لها بكثير

من النقد والتمحيص والكاتب سيصاب بنوع من الحذر والحساسية.

الجائزة ليس لها مقابل مادي على غرار الجوائز الغربية من الدول الغنية؛ فرومانيا ما زالت دولة خارجة من عبء سياسي ثقيل

الوطأة، واقتصاديا ما زالت تجاهد للوقوف على قدميها. الجائزة الكبرى معنوية أكثر منها مادية؛ لذا فهي ليست مرفأ ليركن الشاعر

قاربه وأدوات صيده ويخرج بحوته الكبير مُباهيا. وقد ذكرتُ في هذا السياق قبل أيام قليلة بأنني ما زلت أسبح في بحر الكتابة، ما إن

أصل لشاطئ حتى أبحث عن غيره. اعتقادي بأن البحر هو الأصل والشاطئ استثناء. واستراحتي الاستثنائية على الشاطئ قصيرة

للغاية، فقط لأتأمل معنى البَرِّ، قبل أن أرمي بنفسي مجددا في الأصل.

أرى أن الجوائز الأدبية تشكل تقريبا وتعريفا للقراء الغربيين والشرقيين على السواء. الجائزة تخلق فضولا للتعرف بغير المشهورين،

وهذا فضول حسن ويرغبه كل شاعر وكاتب؛ يُسعده أن يرى أن عمله الأدبي أو الفني عليه قبول وأن هناك من يقرأ ويتابع، وإن كان

الغرب أفضل منا بمراحل في تقييمه للأعمال ومسارعته بعمل ترجمات وإرسال دعوات للكتّاب لتقديم أعمالهم بأنفسهم قبل موتهم

وطلب نماذج من كتاباتهم للمشاركة في دوريات وأنطولوجيات جادة تحترم الكاتب.

> برأيك ما هي الموضوعات التي تشغل شعراء العصر الحالي؟ البحث عن الروح المفقودة، معاناة الإنسان رغم التقدم؟ وذلك بعد أن

ضلت بوصلة الشعراء جزر الحب التي كانوا يبحثون عنها.

ـ الشغل الشاغل لقليل من شعراء العصر الحالي هو البحث عن طريق جديد للتواصل الإنساني مع البشر عبر المكتوب؛ عبر الفن

بمعنى أوسع. الروح ضلت في كثير من الأحيان وكثير من الأمكنة، والتواصل الطبيعي بين البشر يتجه ليصبح من الاستثناءات. أكثر

كلمة يمكن أن تسمعيها الآن من شخص هي كلمة «أنا مشغول!»، لم يعد أحد يقدّر أهمية الوقت المستقطع للأصدقاء والأحباء، لم يعد

هناك ما أسميه «حق الوقت للآخرين».

العولمة ربما كانت على صواب في بداية توجهها الإنساني، لنكتشف بعد أعوام قليلة أنها أضحت «مصيبة». نحن نعيش في عالم واحد،

لكنه متشرذم، قريبين مجازيًّا لأقصى حَدٍّ من بعضنا البعض، لكن كل واحد منا يعيش في جزيرته الخاصة مع نفسه داخل عالمه

الافتراضي النائي.

جزيرة الحب ما زالت موجودة، لكن الزمن تغير ووسائل الوصول تغيَّرت؛ والتواصل والتكامل بين الفلاح والعالم والصانع والشاعر

والسياسي والاجتماعي والاقتصادي .. إلخ يتجه للانقراض. الدورة البشرية الطبيعية في انقطاع. هذا التشرذم والتشظي في الأدوار

يخلق بالتأكيد مسخا اجتماعيا وشروخا اقتصادية يصعب ترميمها.

>عيشك مغتربا عن وطنك قد يحصر «ميدان» مؤلفاتك في الغربة واختلاف الثقافات؟ فكيف أثرت حياتك الخاصة على نوعية

كتاباتك؟

ـ هذا التصور والافتراض غير صحيحين بالمرة. الاغتراب ليس ابتعادا فيزيقيا عن الوطن. الاغتراب هو الابتعاد الروحي عن الوطن

 وعن الأصول. كيف يمكن لي ذلك وأنا ما زلت أتحدث لغتي العربية كل يوم وأقرأ بها، استمع لها وأتابعها وأشارك بها. الثقافة الجديدة

 أضافت إلى ثقافتي الأصلية وحسَّنت منها وطعّمتها وتزاوجت معها. لا أوافق على مقولة «اختلاف الثقافات». الثقافة مَعينٌ واحد عظيم

 لا ينضب، متاح لكل من يطلب. الموسيقى مثلا ثقافة لا تحتاج إلى ترجمة، الرسم والنحت لا يحتاجان إلى ترجمة. الاختلافات قد تكون

في أشياء مثل اللغات وأساليب الحياة والعادات والتقاليد والمظاهر الخارجية.

فيينا عرَّفتني بالكثير وفتحت أحضانها لي بعد أن فَهِمَتْني وفهمتُها، وكنت أعلم أنني أنا الغريب عنها وليست هي الغريبة، وأن أول

شروط هذا الزواج هو مهر غالٍ، قبلته، فأكسبني جَمْعُهُ خبرة عظيمة أفادتني.

أما تأثير البيئة الجديدة على حياتي وأدبي؛ فهذا وارد وضروري. عالمي الجديد منحني مجالا خصبا للرؤية عن قرب وعن بعد، فسهُلت

بعده الكتابة، بعد أن فهمتُ الحياة هنا بعاداتها وتقاليدها، بجمودها ومرونتها، بجمالها الكثير وقبحها القليل، بسهولتها وصعوبتها،

ببريقها وانطفائها.. إلخ. كل هذا لا بد أن يكون مؤثرا وينبغي أن يظهر في كتاباتي بوضوح، خصوصا أنني استوعبت الآن ـ وأظن

 ذلك ـ هذا العالم الذي لم يعُدْ بَعْدُ جديدا عليَّ؛ فأنا أعيش فيه منذ ربع قرن. كنت وما زلت أخشى الكتابة عما لا أعرف في فيينا. الآن

أكتب بإصرار وبكل حرية.

> ما هي اهتماماتك الرئيسية ككاتب؟

ـ محاولة الوصول بما أكتب إلى عدد مناسب من القراء الجادين، مما يؤسس محاورات مباشرة ويؤدي إلى فهم متبادل وكسر حدود

الانغلاق الإنساني المعتم. الكاتب ليس بطلا. الكاتب له دور أساسي على الأمد الطويل وفي غاية الأهمية، ولا بد أن يكون له دستوره

الخاص وبرلمانه الأدبي الأوسع في غير شكله السياسي.

>يقولون إن في كل عمل روائي لأى كاتب جزءا من الأوتوبيوجرافي؟ ما تعليقك؟

ـ كتبت قبل أسبوعين التالي: «لكل نصٍ مكتوبٍ منّي ثلاثة أطراف: طرفٌ من الواقع وطرفٌ من الخيال وطرفٌ أخير لم أدركه بعد. هذه

الخلطة تأتي عفويًّا وقد يفسدها غلبة طرفٍ على آخر». هذا الطرف الذي أقصده من الواقع لا بد أن يكون فيه من السيرة الذاتية قبسٌ.

ليس بالضرورة بحذافيره، فما يهم من السيرة الذاتية هو ذلك القالب الفني المبتكر. حتى الخيال، هو ـ بالضرورة ـ استجابة شرطية

للواقع ومؤسَّس على خبرة عالية مكتسبة. والأدب المميز ينبع من هموم شخصية لصيقة بفكر الأديب وبالإحساس بما يعاني الآخَر،

سواء بالتجربة الفعلية أو بالمشاركة الوجدانية. ما أكتبه في أعمالي الأدبية هو بالضبط ما أريد إيصاله للقارئ، وليس التعليق اللاحق

مني أو التحليل والتفسير لما كتبت! لا أرى أن هذه مهمة الشاعر.

> «بيت النخيل»، «مدن بلا نخيل»، «الجمل لا يقف خلف إشارة حمراء»، نجد أن النخيل والجمال هي الملامح الخاصة للبيئات

العربية، هل تشعر بالنوستالجيا وأنت تضمِّن هذه الملامح عناوين كتبك؟

ـ من الطبيعي أن أشعر بالحنين إلى بيئتي التي خرجتُ منها، وهذا وضع صحي. لكن يجب أن يكون المردود أعلى في استعمالي لأشياء

أو ملامح من البيئة العربية؛ فالأدب استثمار فني ويجب أن يكون هناك عائد من هذا المستثمَر وإلا تآكل أصل رأس المال الأدبي.

لا أحب الاستخدام المجاني أو (الإكزوتيكي) لملامح البيئة العربية، لستُ في معرض كتابة سياحية أو «إثارية» ـ من إثارة. البيئة التي

نشأتُ فيها غنية لأقصى الحدود، صحيح أن البساط الاقتصادي الداعم لها قد سُحب من زمن، لكن هذا الاجتماعي من القوة والغنى بحيث

انه صمد وسيصمد لأجل طويل. ليس هناك أي عيب في الحنين الفعَّال. أما حنين الهم والبكاء على الأطلال فليس لهما عندي محل من

الإبداع.

> الأدباء العرب المقيمون بالدول الغربية رسموا صورا مبهمة عن الحياة الغربية تركَّزت معظمها على العلاقة بالجنس الآخر؟ ما

رأيك؟


ـ هنا تَجَنٍّ كبير، فالكثير من الأسماء الجيدة وظَّفت كتابتها في السياق الإبداعي الأدبي الحر، فأفادت واستفادت. ما حصل هو التالي : 

وهنا نقطتان أساسيتان للتوضيح والفصل.

 إن المجتمعات الأوروبية ليس لديها هذه المحرمات الموجودة لدينا في الكتابة. وإننا ما زلنا غير متعوِّدين على الكتابة في هذه المجالات

«عربيا». لأننا أيضا لم نتعوَّد في عصرنا الحديث على القراءة في هذه الموضوعات. الجانب الجنسي هو في الحقيقة الجانب الأثير،

 فهذا الجانب لبعض ممن ليس لديهم ثقافة ومعرفة بالغرب يُعتبر أسهل طرق المفاوضات البشرية. والتناول السطحي للجنس والفحولة

 العربية في الغرب أمور ما زالت مُسيطرة على عقول القليل من الكتَّاب ونبراسهم العتيد لتفوقنا الأكيد لبطولات الغازين الفاتحين ومن

تبعهم من القراء الغاوين. وهو أمر بائس يضحك عليه الغرب ليلا نهارا وأنا أيضا.

> النقاد الغربيون يقولون إن أدب المهاجرين ببلادهم نادرا ما يعكس أو يوضح ثقافة الجذور لهؤلاء، لذا يظل الأدب الشرقي والثقافة

الشرقية مشوهة بالنسبة إليهم ولم تخرج عن إطار شَهرَزَاد وشهريار.. ما رأيك؟

ـ من يقول هذا القول لم يقرأ كل الأدب الموجود. أنا أعاني في بعض الأحيان من أنني أكتب كتابات لا توجد بها هذه «التحابيش»

الشرقية والتوابل «الشهرزادية» والوصفة النسوية المتحذلقة. البعض هنا ـ وهم الأبعد عن الأدب ـ قد لا يتذوَّقون هذا الأمر؛ فإن كتبتُ

عن موظفة تعاني الأمرَّيْن في عملها فيقولون: معلوم! فزوجُها هو السبب، أقول ولكن زوجها متوفى. يقولون إذًا هو رئيسها في العمل،

 هو ذاك الذكر المجرم المتسلِّط، أقول إن رئيسها سيدة.. وهكذا (هذا لا يعني أنني أدافع عن تجاوزات لتناقضات صارخة وهيمنة

ذكورية لا أنفيها)، لكني أكره مسألة تلوين الأدب حسب المزاج ووضعه في إدراج: هذا شرقي وهذا غربي، هذا صيني وهذا افريقي

، وتلك هي سمات كل أدب!

طبعا يطلع علينا البعض هنا بين يوم وليلة بكتاب يسمِّيه ما يشاء ويضع فيه هذا الخلطة السحرية التي توجد فيها كل المحسنات الشرقية

المثيرة والطباق الشهرياري العجيب ليُخرجوا لنا كتابات تدوِّي لكنها لا تُعمِّر.

>وبرأيك ما مدى الإقبال على الأدب الشرقي في الغرب؟

ـ الإقبال على الأدب الشرقي في الغرب في شقين كما ذكرت في جواب سابق. إقبال يبحث عن الجديد والمغاير والمكمل ويستمتع به

ويؤيده ويستفيد منه، وهذا مقبول ومطلوب. وإقبال آخر على طريقة «الجمهور عايز كده» يرغب في «بهارات» الخلطة الشرقية

السياحية المؤقتة، يستهلكها الشخص كمن يستهلك مشروبا يستمتع به، وهذا الإقبال الأخير يكسب في بعض الأحيان رنينا أعلى رغم

صدأ المعدن ورداءته.

>العرب في النمسا وجودهم أقل ممَّا هو في بقية الدول الغربية؟ هل هناك أسماء عربية وافريقية نجحت في وضع بصمتها فى المشهد

الثقافي النمساوي؟
ـ النمسا ظلت لعدد كبير من العرب القادمين مجرد محطة للانطلاق إلى مكان آخر. الكثير من الموجودين هنا ما زالوا يتحدثون لغتهم

الأم فقط، أو إلى جانب لغاتهم الأم: اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، ورغم العمر الطويل في هذه البلاد، فالبعض ما زال مُصرًّا على أنه في

حالة «ترانزيت»؛ لذا لم يأبهوا باللغة الألمانية ولم يعطوها أدني اهتمام، وهم بالتالي بعيدون عن الحياة، ناهيك من البعد عن الصورة

الثقافية المتوافرة الفياضة من معارض ومسارح أو سينما أو قراءات أو فنون تشكيلية. هم بالأحرى بعيدون عن جيرانهم مستغربون

للحي الذي فيه يعيشون، وبالتالي لم يكسروا حدة وحدود الاغتراب ليكونوا جزءا من نسيج هذا المجتمع. لكني أعول كثيرا على الجيل

الثاني والثالث؛ فقد بدأت بوادر جميلة في هذا الاتجاه، أتمنى أن يأخذوا فرصة هذا «الفيض الثقافي» بقوة، ليكون لهم تأثيرهم المفيد

لمجتمعهم الذي ولدوا فيه، وليكون في بذرتهم التفهم الأرحب والمحبة للجذور دون التنطع بوطنية خائبة يتوارثها الأبناء والأحفاد دون

أي أمارة.
> الأدب العربي يميل إلى الحشو والوصف، هكذا يعلّق النقاد الغربيون! هل ترى أن نحتفظ بتلك «الخصوصية» أم أن الاحتكاك

بالثقافات وتفاعلها سيغيّر منه ويفك طوق العزلة عن الأدب العربي؟

ـ الحشو والوصف عانى منهما الأدب العربي حتى منتصف القرن الماضي، حاليا بات الأدب يتمتع بخصائص فريدة وجميلة وتخفف

 من التكرار. لكن مشكلة الترجمات إلى اللغات الغربية هي الاختيار الصحيح والمناسب. ليس كل ما يلمع عربيًّا يقبل الترجمة. الترجمة

تحتاج إلى خيانة، حتى تصل في اللغة الجديدة كما أراد صاحبها في فكرتها الأصلية.

أنا أميل إلى تحرير العمل عند الترجمة من كثير من الشوائب بموافقة الأديب ومراجعته، فبعض السطور الوصفية التي ربما تمثل قوة

الرواية عربيا تنقلب في ترجمتها لتكون هي بالضبط مناطق الضعف. لا عيب في وجود محرر أدبي يخلّص العمل من شوائبه التي

 ستعيق القارئ الأجنبي دون المبالغة ودون ضياع أصل العمل ودون التشويش بتغيير من النص، بل بتوصيله.

> تمسكك بأصولك السودانية يبرز في كل حواراتك رغم ميلادك ودراستك بمصر؟ هل هو رد فعل لعدم اندماج أو ذوبان في المجتمع

المصري؟

 تمسكي ليس بأصول اسم الدولة: مصر أو السودان أو «بلدستان»، وأنا بالمناسبة شخص يكره الأعلام (وليس الإعلام) بامتياز!

تمسكي الحقيقي هو بأصول المكان وبالأهل أينما أتوا، وأنا مكاني كان القاهرة وعين شمس تحديدا التي كانت في ذاك الحين مثل حي

من السودان. والدي كان يتكلم اللهجة السودانية ووالدتي تتكلم القاهرية الدارجة بامتياز، لهجتي الدارجة هي القاهرية المصرية وما زال

 حتى الآن، عدد أصدقائي المصريين هو الغالب. محبتي كانت وما زالت لهذا المكان الكبير الممتد من جنوب السودان حتى مصب النيل

في البحر. لا أحب التقسيمات ولن أفعل، ولعل البعض ـ سواء في السودان أو في مصر ـ يحبّذون هذه الحدود ويؤكدون على هذه

الفوارق. كما قلت من قبل فيما يتعلق باللغة: إن تعلم لغة جديدة لا يعني إزاحة أو إلغاء اللغة القديمة، والأمر بالنسبة للمكان والانتماء

والمحبة أكبر كثيرا من هذه الحدود التي صنعناها، فالتاريخ الاجتماعي الحقيقي أقوى من الجغرافيا المعلبة، والجغرافيا الطبيعة التي

خلقها الله أقوى من التواريخ المزيفة. سأضيف إلى ذلك محبتي وانتمائي العميق لفيينا مدينتي الأثيرة التي أعيش فيها منذ ربع قرن وما

زلت.

> ما كمية توزيع أعمالك العربية مقارنة باللغات الثانية؟

ـ للأسف لا أعلم الكثير عن توزيع أعمالي بالعربية، إلا من ناشر وحيد في مصر هو إلهامي لطفي بولس، صاحب «دار الحضارة

للنشر والتوزيع». أما الآخَرون ـ ثلاث دور نشر أخرى ـ فلا علم لديَّ بما يبيعون أو يوزعون، والتواصل للأسف شبه منعدم وإن وجِد،

فهو لا بد وأن يكون بمبادرة من مؤلف الكتاب.

روايتي الأخيرة «بيت النخيل» المنشورة عام 2006 كُتِب عنها عربيا من المحيط إلى الخليج حتى الآن مرتين، ولم يكن المكتوب نقدا

من أي ناقد. «بيت النخيل» المترجمة للألمانية والمنشورة هذا العام قبل ستة شهور في برلين كُتِب عنها سبع مرات حتى الآن

وعرضت كمادة توثيقية لمدة سبع عشرة دقيقة في التلفزيون النمساوي، وأراها في واجهات أهم المكتبات في فيينا ودعيت من أجلها

حتى الآن لأكثر من عشر قراءات في الداخل والخارج.

الناشر في أوروبا يعطيني فقط عشر نسخ من كتابي المنشور. يوزع هو بنفسه ما يقرب من مائة نسخة للصحافة والإعلام، وهناك

عقود بيننا تحدد كل كبيرة وصغيرة، وهو ملتزم بطباعة الكتاب مجددا بعد نفاده. وهذا ما يحدث حاليا مع «مدن بلا نخيل» بالألمانية.

وهو مهتم بتجهيز ندوات لي لترويج الكتاب مدفوعة التكلفة من سفر وإقامة ومقابل للقراءة من المؤسسات المهتمَّة. توجد أيضا

استثناءات سلبية من ناشرين آخرين.