بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 27 فبراير 2011

قريب محمد راجح تحقيق الذات رغم الصعاب

 
قصص النجاح لا تتوقف أبداً مادام أصحابها قد أبرموا العزم على بلوغ أقصى درجاته وتحقيق الطموحات العريضة ... ولكن هذا النجاح هو حالة فريدة متى أحاطت بطالبه ظروف أقل ما توصف به أنها قاسية او بالأصح ( مستحيلة ) ومن هذه البداية الغامضة والمستحيلة كانت تجربة د/ قريب محمد راجح أستاذ علوم أصول الدين بجامعة أمدرمان الإسلامية ....الذى أثبت بالدليل القاطع فعلاً أن لا مستحيل فوق الأرض وتحت الشمس ...رواية هى أقرب الى ( الدراما ) تحكى قصة نجاح علمى باهر تكّون فى رحم العدم ليولد فى علم الحقيقة المنظورة.



(راعى الغنم ) البسيط الذى هبط على المدينة دون سابق ترتيب فقادتة أقدارة الصعبة ليدخل جامعتها العتيقة (غفيرا) وبنتهى به المشوار أستاذا بقاعات محاضراتها وعالما مرموقا فى أروقتها ومحافلها ومنتدياتها ...ربما سمع البعض بقصتة خبرا ولكننا هنا نصغى إلية شخصيا وهو يتلو علينا تلخيصا لها فى هذة المحطات دون ان نفسدها بالمقاطعة او المداخلات حتى لا نخل برزنامة الأحداث او ترتيب التوثيق .
تصدير
بأقصى أصقاع مدينة بارا وفى قرية صغيرة مجهولة تماما تسمى (معافى ) ولد الطفل (قريب ) فى عام 1920 وحين بلوغة السابعة إرتحلت به الأسرة مع إخوانة _كعادتها_ فى صيف 1927 الى مدينة بارا التى لم تكن تعرف حينها من مظاهر العلم غير مدرسة صغيرة يلتحق بها بعض" المحظوظين " بعد تزكيتهم من شيخ الخلوه وحدث ان كان قريب واحدا من هؤلاء المحظوظين إلا أنه لم يتحقق له الدخول الى تلك المدرسة لأن أبويه أسرعا بالرجوع به الى القرية حفاظاً عليه من الشبهات التى تحيط بالذين يذهبون إلى المدارس ....لم تمض سنوات قليلة وأنتقل والده الى الرفيق الأعلى لينتقل تلقائياً هذا الصبى الغض إبن التاسعة الى عائل للأسرة الفقيرة ....ولندع الآن صاحب الرواية يسترسل بنا وهو يجيب على إستفساراتنا وليس ( أسئلتنا) .
محطة أولى :
عملت فترة – والحديث على لسان د/ قريب – أرعى الغنم بقريتنا مع ممارسة بعض أعمال الزراعة بصحبة أمى ثم إنتقلت ثانيا لأعمل مع أحد معارف أبى بمدينة ( بارا) بدكان صغير وبأجر لا يتجاوز (خمسة قروش) عن كل شهروهذا العمل أكسبنى مزيداً من المعرفة والخبرة بالكتابة والقراءة حيث أننى كنت أعرف ما يرد الى الدكان وما يخرج منه ومكثت قرابة العامين فى هذا الدكان.
حادثة :
فى هذه الأثناء حدث أن أصبت بحمى شديدة أظنها كانت ( الملاريا ) نصحنى حينها أحد أقارب صاحب المتجر الذى أعمل به أن أذهب وألقى بنفسى فى ماء خور (بارا) حتى أشفى وبالفعل عملت بنصيحته وكانت النتيجة أننى شارفت على الغرق لولا عناية الله وتواجد بعض المارة الذين سارعوا الى إنقاذى من موت محقق .
حادثة أخرى:
بعد حادثة الخور حاول أحد أعمامى إرجاعى الى القرية ولكنى تمكنت من مراوغته والإفلات منه وذهبت لأرع الغنم مع أحد بيوت قبيلة " الشنابلة " وكان برفقتي صبى آخر من نفس عمري أصابنا العطش ونحن نتبع مناطق الكلأ حتى كنا لا نجد ما نشرب إلا من لبن الغنم والتي هي الأخرى قد شارفت على النفوق بسبب العطش وفى بحثنا عن الماء والذي إمتد الى لثلاثة أيام وبعد أن أصابنا اليأس من هذا التجوال بدت لنا أشجار ...وكانت المفاجأة مذهلة.. هناك بئر ضحلة وسط المنطقة تحمع فيها بعض ماء المطر(الرشاش) وسارعت أنا بالنزول الى حيث الماء بينما وقف صاحبى يراقبنى وهو يرتجف خوفاً وعطشاً ولم أكد أضع رجلاى على جدار البئر حتى إنهارت بى الى أسفل وولى صاحبى هارباً...وحين عاد ثانية سألنى إن كنت على قيد الحياة ولما سمع صوتى قذف لى بعمامته حتى أبللها بالماء ليروى عطشه ثم تركنى وذهب دون أن يحاول إنقاذى وبقيت طيلة نهار ذاك اليوم أبحث عن مخرج ولم أتمكن ذلك إلا عند مغيب الشمس ليكتب لى عمراً جديداً.
محطات ومحطات :
ويمضى د/ قريب فى سرده قائلاً في عام 1934 عدت إلى (بارا) ثانية وعملت بالتجارة ولم أرجع الى قريتى (معافى ) إلا فى عام 1944م أثناء الحرب العالمية الثانية وقتها كنت قد أتقنت كل أعمال القراءة والكتابة من خلال عملى فى التجارة ...وتوجهت بعضها الى مدينة الأبيض حيث أشتغلت كاتباً ثم عدت الى( بارا) لأعمل أيضا (بزريبة ) المحاصيل ..ووقتها بدأت أعرف شيئا عن الإستقرار حيث تزوجت فى عام 1948 وأنجبت إبنى البكر .وكنت حينها أتردد على حلقة علم يقيمها أحد المشايخ بمدينة (بارا) يدرس فيها الفقه والحديث والتفسير واللغة العربية ما بين صلاتي المغرب والعشاء وداومت أربع سنوات على هذة الحلقة حتى أصبحت أفتى فى بعض الأمور بعد أن أجازنى الشيخ (عيسى محمد مختار) وهو صاحب الحلقة حضورى إلى أمدرمان لم يكن مرتبا له أبداً فقد حدث أن أصيب جد أولادى بمرض شديد أضطرنى لمرافقته الى مشتشفى الخرطوم للعلاج وفى أثناء وجودى معه وبعد أن نفد ما لدينا من مال كنت أذهب لأعرض نفسى يومياً فى سوق العمال بأمدرمان ولكن دون جدوى فما كان أحد من المقاولين يختارنى للعمل معة بسبب مظهرى النظيف وشاء القدر أن إستاجرنى أحد العاملين بالشئون الدينية للقيام ببعض الترميمات بمنزل قديم له بالقرب من مستشفى التجانى الماحى وبعد إنتهاء العمل قال لى أنه ليس لديه مانع إن أردت الإقامة بالمنزل والقيام بحراسته وبالفعل قبلت العرض دون تردد وبعد أيام قليلة جائنى ذات الرجل ليخبرنى بأن هناك وظائف بجامعة أمدرمان الإسلامية التى كانت قد أفتتحت حديثاً ولكنه أبدى أسفه لأن هذة الوظائف تتطلب الإلمام بالقراءة والكتابة وعندما أعلمته بأننى أتقن القراءة والكتابة إصطحبنى مباشرة الى مكاتب إدارة الجامعة وهناك تم إختيارى وإجتزت الإمتحان الذى لم يكن أكثر من كتابة إسمى رباعياً وسألنى الموظف المسؤول إن كنت أجيد الطبخ فأجبت بنعم رغم انى لا أدرى عنة شيئاً.
ويفيض د قريب مواصلا تفاصيل هذة التجربة الفريدة بقوله "وظيفتى الجديدة " كانت تتطلب منى القيام بخدمة 20 طالباً يقيمون فى منزل واحد براتب شهرى قدرة 9 جنيهات وواجباتى كانت تشمل أيضا التنظيف والطبخ والحراسة وقد إستفدت كثيراً من وجودى بين هؤلاء الطلاب حيث كنت أستمع الى مناقشاتهم أثناء وجودهم بالمنزل وهى عادة لا تبتعد عن الفقه والسيرة والتفسير واللغة وقد كانت لى خلفيتى فى هذه المجالات كما كنت أطّلع على مذكراتهم الدراسية أثناء غيابهم حتى أنى أصبحت أجاريهم فى كل ما يقال من نقاش وبحكم الوقت الكافى الذى توفر لى بوجودى مع هؤلاء الطلاب كنت مستمعاً جيداً للإذاعة فى أوقات فراغى الكثيرة وهذا ما دفعنى الى الدخول فى ميدان كتابة المسلسلات الإذاعية حيث قدمت تسعة مسلسلات تم بثها جميعا منها ( الهمباتة ) ،(حظ أم زين) ، (عشا البايتات) وزينوبة وغيرها.
قريب طالباً:
حتى هذه اللحظة لم يعرف " صا حبنا " طريقه الى مقاعد الدراسة وقد جاوز عمره الخمسين إلى أن كانت تلك الرحلة التى قام بها طلاب الكلية الى جبل مرة وكان هو مرافقاً لهم للقيام بأعمال الطبخ وتجهيز الوجبات وفى أثناء الإستراحة تحلق حولة الطلاب وأخذوا يتناقشون معه حول إحدى المسلسلات التى كتبها للإذاعة فسألهم الأستاذ المشرف على الرحلة - د- محى الدين خليفة الريح عنه فأخبروه بأنه قريب محمد راجح كاتب المسلسلات الإذاعية المعروف فأبدى دهشته لما سمع فإفترح عليه من وقتها أن يلتحق بحلقات العلم التى تقام بمسجد أمدرمان الكبير حتى يتمكن من الجلوس لإمتحان الإجازة للالتحاق بمعهد أمدرمان العلمى وبالفعل تم له ذلك ودرس بالمعهد عاماً واحداً ونال بعدها الشهادة الأهلية وكان ضمن المقبولين للجامعة فى ذاك العام .


ويتواصل الحديث من د/ قريب محمد راجح ....كان خبر دخولى الجامعة مثار دهشة من الجميع خاصة من زملائى العمال وخاصة الممثلين والممثلات بالإذاعة وجميع معارفى وأهلى وأقيمت الإحتفالات بهذه المناسبة من قبل إدارة المعهد وأساتذة الجامعة والعمال وتم بعدها تفريغى للدراسة مع إستمرار راتبى وأذكر بهذة المناسبة أن احد الاساتذة بمنطقة " الجنيد " كتب مقالاً فى إحدى الصحف اليومية ووجه نداء الى وزير الثقافة والإعلام وكان وقتها المرحوم عمر الحاج موسى وناشده فيها برعايتى وقد إستجاب الوزير لذلك وطلب مقابلتى مع هذا الأستاذ ثم إستدعى الأستاذ محمد خوجلى صالحين مدير الإذاعة حينها ووجه بصرف 15 جنيه شهريا لى حتى تخرجى من الجامعة والذى كان فى عام 1978م وفى عام 1980 تم إفتتاح قسم الدراسات العليا بالجامعة وتقدمة لنيل درجة الماجستير وأنهيت دراستى فى العام 1983 وهى أول رسالة ماجستير يتم منحها من جامعة أمدرمان الإسلامية وكان موضوعها " تخريج أحاديث أبوذر الغفارى فى مسند الإمام أحمد " وقد حصلت عليها بتقدير ممتاز واذكر هنا ان المناقش الخارجى للرسالة كان الشيخ "الحسين عبد المجيد هاشم " وكيل جامعة الأزهر حيث لم يكن يوجد وقتها أساتذة متخصصون فى ذات المجال فى السودان.
ثم ماذا بعد ؟
كنت وقتها على أتم الإستعداد لتقديم أطروحة الدكتوراة ولكنى لم أجد من يشرف على الدراسة حتى عام 1986. وقتها بلغت السادسة والستين من العمر وقد ناقشنى فى الرسالة د/ بشير محمد راغب ود/ الطاهر عبد القادر وكانت حول " توحيد وإثبات كتاب إبن خزيمة " وحصلت عليها بتقدير ممتاز .. وقد كان لدكتور بشير أحمد على الترابى دور كبير فى كل ما حصلت علية من درجات علمية وكذلك د/ كامل الباقر المدير الأسبق للجامعة الذى قال أثناء مناقشة رسالتى للدكتوراة وهو يتحدث عن الإهمال الذى قابلتنى به إدارة الجامعة قال : " والله لو أن الإسلام لم يحرم التماثيل لصنعت لهذا الرجل تمثالين و "كان يقصدنى " ووضعتهما على مدخل الجامعة وأوصى بإضافة خمس سنوات خدمة لى بعد نيلى درجة الدكتوراة حتى أتمكن من العمل بالجامعة وقد كان حيث أحلت للمعاش فى العام 1994


هذة قصة د/ قريب محمد راجح مع الحياة والعلم  مشواراً لا يعرف الصعاب وطموحاً فوق كل مستحيل ودرساً يفسده التعليق.